فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا}.
ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما.
لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما.
وهو مؤمن: جملة حالية، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} أو يراد بمثقال ذرة من إيمان، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين، والظاهر من قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة}، أنّ ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور؛ ويدل عليه قوله: {ولنجزينهم أجرهم} يعني في الآخرة، وقال الحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وابن زيد: ذلك في الجنة.
وقال شريك: في القبر.
وقال عليّ، ووهب بن منبه، وابن عباس، والحسن في رواية عنهما هي: القناعة، وعن ابن عباس والضحاك: الرزق الحلال، وعنه أيضًا: السعادة.
وقال عكرمة: الطاعة.
وقال قتادة: الرزق في يوم بيوم، وقال إسماعيل بن إبي خالد: الرزق الطيب والعمل الصالح، وقال أبو بكر الورّاق: حلاوة الطاعة، وقيل: العافية والكفاية، وقيل: الرضا بالقضاء، ذكرهما الماوردي.
وقال الزمخشري: المؤمن مع العمل الصالح إنْ كان موسرًا فلا مقال فيه، وإن كان معسرًا فمعه ما يطيب عيشه، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى.
والفاجر إن كان معسرًا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرًا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه.
وقال ابن عطية: طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب.
وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظه من مفردًا، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع، فجمع.
وروي عن نافع: وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة.
وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفًا على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان.
ولا يكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز.
فعلى هذا لا يجوز: زيد قلت والله لأضربن هندًا ولينفينها، يريد ولينفيها زيد.
فإنْ جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي: وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى.
فمن الأول: {وليحلفن بالله إن أردنا إلا الحسنى} ومن الثاني: {يحلفون بالله ما قالوا} ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)}.
لما ذكر تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} وذكر أشياء مما بين في الكتاب، ثم ذكر قوله: {من عمل صالحًا} ذكر ما يصون به القارىء قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذ في القراءة.
فإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم لفظًا فالمراد أمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث: «إن ثواب قراءة كل حرف عشر حسنات» والظاهر بعقب الاستعاذة.
وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة، وروي عن ابن سيرين أنه قال: كلما قرأت الفاتحة حين تقول: آمين، فاستعذ.
وروي عن أبي هريرة، ومالك، وداود.
تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور: على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة.
قال الزمخشري: لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} وكقوله: «إذا أكلت فسم الله» وقال ابن عطية: فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ، أمر بالاستعاذة.
فالجمهور على الندب، وعن عطاء الوجوب.
والظاهر: طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقًا، والظاهر: أنّ الشيطان المراد به إبليس وأعوانه.
وقيل: عام في كل متمرد عاتٍ من جن وإنس، كما قال شياطين الإنس والجن.
واختلف في كيفية الاستعاذة، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لما روى عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين.
والسلطان هنا التسليط والولاية، والمعنى: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} وكما أخبر تعالى عنه فقال في قصة أوليائه: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} وقيل: المراد بالسلطان الحجة، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقًا.
وقيل: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه.
وقيل: ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب، والضمير في به عائد على بهم، وقيل: على الشيطان، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، أو تكون الباء للسبية، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{مَّنْ عَمِلَ صالحا} أي عملًا صالحًا أيَّ عملٍ كان، وهذا شروعٌ في تحريض كافةِ المؤمنين على كل عملٍ صالح غِبَّ ترغيبِ طائفةٍ منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالحٍ مخصوصٍ دفعًا لتوهم اختصاصِ الأجر الموفورِ بهم وبعملهم المذكور وقوله تعالى: {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} مبالغةٌ في بيان شمولِه للكل {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قيّده به إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيفِ العذاب لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} وإيثارُ إيرادِه بالجملة الاسميةِ الحالية على نظمه في سلك الصلةِ لإفادة وجوبِ دوامه ومقارنتِه للعمل الصالح {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} أما إن كان موسرًا فظاهرٌ وأما إن كان معسِرًا فيطيب عيشُه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقعِ الأجرِ العظيم كالصائم يطيب نهارُه بملاحظة نعيمِ ليلِه بخلاف الفاجر، فإنه إن كان معسرًا فظاهرٌ وإن كان موسرًا فلا يدعه الحِرصُ وخوفُ الفوات أن يتهنأ بعيشه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} حسبما نفعل بالصابرين فليس فيه شائبةُ تكرار، والجمعُ في الضمائر العائدةِ إلى الموصول لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ، وإيثار ذلك على العكس لِما أن وقوعَ الجزاء بطريق الاجتماعِ المناسبِ للجمعية ووقوعَ ما في حيز الصلةِ وما يترتب عليه بطريق الافتراقِ والتعاقُب الملائمِ للإفراد، وإذ قد انتهى الأمرُ إلى أن مدار الجزاء المذكورِ وهو صلاحُ العمل وحسنُه رُتّب عليه بإلغاء الإرشاد إلى ما به يحسُن العمل الصالح ويخلُص عن شَوب الفساد فقيل: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} أي إذا أردت قراءتَه عبّر بها عن إرادتها على طريقة إطلاقِ اسم المسبّب على السبب إيذانًا بأن المرادَ هي الإرادةُ المتصلةُ بالقراءة: {فاستعذ بالله} فاسأله عز جارُه أن يعيذك {مِنَ الشيطان الرجيم} من وساوسه وخطَراتِه كيلا يوسوسَك عند القراءة فإن له هَمّةً بذلك، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} الآية، وتوجيهُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصُ قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحةِ أهمّ فإنه عليه السلام حيث أُمر بها عند قراءةِ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه فما ظنكم بمن عداه عليه السلام وفيما عدا القراءةَ من الأعمال والأمرُ للندب وهذا مذهبُ الجمهور، وعند عطاء للوجوب وقد أخذ بظاهر النظمِ الكريم فاستعاذ عَقيبَ القراءة أبو هريرة رضي الله عنه ومالكٌ وابنُ سيرينَ وداودُ وحمزةُ من القراء، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: قرأتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال عليه السلام: «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريلُ عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ».
{إنَّهُ} الضمير للشأن أو للشيطان {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلّطٌ وولاية {على الذين ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي إليه يفوضون أمورَهم وبه يعوذون في كل ما يأتون وما يذرون فإن وسوستَه لا تؤثر فيهم ودعوتَه غيرُ مستجابة عندهم، وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة الأولى للدِلالة على التحقق كما أن اختيارَ صيغةِ الاستقبالِ في الثانية لإفادة الاستمرارِ التجدّدي، وفي التعرض لوصف الربوبية عِدَةٌ كريمةٌ بإعادة المتوكلين، والجملة تعليلٌ للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنويِّ أي يُعِذْك أو نحوه.
{إِنَّمَا سلطانه} أي تسلّطُه وولايتُه بدعوته المستتبعةِ للاستجابة لا سلطانُه بالقسر والإلجاء فإنه مُنتفٍ عن الفريقين لقوله سبحانه حكايةً عنه: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} وقد أفصح عنه قوله تعالى: {على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} أي يتخذونه وليًّا ويستجيبون دعوتَه ويُطيعونه فإن المقسورَ بمعزل من ذلك {والذين هُم بِهِ} سبحانه وتعالى: {مُّشْرِكُونَ} أو بسبب الشيطانِ مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه، وقصُر سلطانه عليهم غِبَّ نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليلٌ على أنْ لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطةٌ في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظمُ في سلك مَنْ يتولّى الشيطانَ من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليلُ ففيه مبالغةٌ في الحمل على التوكل والتحذيرِ عن مقابله، وإيثارُ الجملة الفعليةِ الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرارِ التجدّدي كما أن اختيارَ الجملةِ الاسميةِ في الثانية للدلالة على الثبات، وتكريرُ الموصولِ للاحتراز عن توهم كونِ الصلةِ الثانية حاليةً مفيدةً لعدم دخول غيرِ المشركين من أولياء الشيطانِ تحت سلطانِه، وتقديمُ الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارَنةِ بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى، ولو رُوعيَ الترتيبُ السابق لانفصل كلٌّ من القرينتين عما يقابلها. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} أي عملا صالحًا أي عمل كان، وهذا كما قيل شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعًا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم، وقوله تعالى: {مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} دفع لتوهم تخصيص {مِنْ} بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ {مِنْ} فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعًا على الأصح، واستدل عليه بما رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه» وقول أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن الحديث فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في {مِنْ} وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها الاماء عتقن، وبعضهم يستدل على ذلك أيضًا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعًا لما صح أن يبين بالنوعين.
وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث أن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلًا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب، وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول، وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} في موضع الحال من فاعل {عَمَلٍ} وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق القواب إجماعًا، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها، فقال بعضهم: لا يترتب أيضًا لقوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل: 85]، وقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا} [الفرقان: 23].
وقال الإمام: إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره} [الزلزلة: 7]، وحديث أبي طالب أنه اخف الناس عذابًا لمحبته وحمايته النبي صلى الله عليه وسلم.